آيات تشهد بعبادة كل المخلوقات لله

نداء الإيمان


كالعَذْب الزلال المسترسِل في النزول غيثًا على الأرض القاحِلة، التي أخذ منها الجدب مأخذًا، تنزلت الرَّحمات تتْرَى، تغسل الثرَى مِن عذاب طال، وتفك الأغلال عن أرواح ضلَّتْ وابتعدت، وكأنَّما هي صحراء قاحِلة، لا زرعَ فيها ولا ضرْع، يخيل للناظر إليها أنَّها بوار قد تجلَّتْ فيها كلُّ صور الموت، وأغرَقها الجفافُ في عوالمه المجهولة، واجتثتْ مِن باطنها بوادر الأمَل، كان الهلاكُ يترصَّدها، ويتحيَّن الفُرَص كي يُهلكَها ويقتل الحياة فيها.

هل استسلمتِ الأرض العطشَى ويئست؟ كانت كل حبَّة مِن ترابها تنتظر الغيث، تأمُل في كل غيمة قطرة، وفي كل صباح ندًى، حتى إذا أذِن الله للسماء أن تمطر، اهتزَّتْ وربَتْ، وأينع الخير بداخلها، فإذا ببعث جديد يطفو على السطح، يزين أديمها بشتَّى أصناف الزُّروع.

فسبحان من علَّمها ألا تَيْئَس، وأن تنتظر الفرَجَ من رب السموات والأرض، مثل النفوس المؤمِنة التي لا تعرف اليأس أبدًا.

كبر السؤال بداخلي، ما بالنا لا نَقتدي بمخلوقات الله وبإذعانها لله واستسلامها؟!

فهي دومًا خاضعة له - سبحانه - في شتَّى الحالات، لا تكلُّ ولا تملُّ، العبودية جلية في كل ذرَّة مِن ذراتها، فالأرض في حال القحْط خاضِعة، في حال المطر خاشِعة، فرِحة برحمة الله كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39].

ويبقَى الخضوع صِفةً ملازمة لكلِّ المخلوقات؛ يقول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].

وكلما تعمقتُ في معاني الآية الكريمة استشعرتُ ضآلتي أمامَ هذه المخلوقات العظيمة، التي أذعنتْ لله وأطاعته، حبًّا وتعبُّدًا وخوفًا منه؛ مِصْداقًا لقوله - جل وعلا -: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93].

ثم تأملتُ الآياتِ التي ذكر الله فيها سجودَ المخلوقات وتسبيحَها له سبحانه، وتجلَّى تقصيري والبون الشاسِع بين حقيقة العبودية، وبين ما أقوم به، كيف لي أن أنشغِل عن الكرامة والرِّفْعة والسعادة بأمورٍ تافهة؟! فيمَ ابتعادي عن طريق الهُدَى والنور؟!

أطرقتُ مليًّا، وآيات كثيرة تتجمَّع كقطرات الغيث ترْوي عطَشِي، وتَزيدني شوقًا للمزيد، علَّني أتعلَّم كيف أكون أَمَةَ الله بحق، الله خالق الأكوان؛ يقول - سبحانه وتعالى - منبِّهًا مَن ألهَتْه دنياه وتجبرُه وتكبرُه عن عبادة مولاه: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18].

خشوعٌ عجيب يشمل الكون؛ إذ هو مشغولٌ بعبادة ربِّه، ساجد عابِد لخالقِه، ثم يُفاجَأ بجحود الإنسان وبكُفْره وإعراضه عنِ الله، وهو أضعفُ مخلوقاته، فتكون النتيجة العذابَ والهوان.

فحياته لا طعمَ لها، يلهث وراءَ السراب كي يدركَه، تبرق أمامَه الأماني، وتشع توهُّجًا تدعوه إلى السراب والوهم، حتى إذا أبْلى جسَده في تتبُّع الشهوات والملذَّات، وأفنَى عمرَه في غَمراتِ الهوى، وعاين السَّكَرات، تقطَّع قلبُه حسَرات على عمر أفْناه في البُعد عن الله، وستنجَلي عندَها له ولمَن عاين الموت، أنَّ العمر لحظات.

صور العبوديَّة تتجدَّد في هذا الكون البديع الجميل، فتغريد العُصفور صباحًا تستأنس به القلوب المؤمِنة، فتشاركه التسبيح، وكأنَّ الأفق يستعدُّ لمهرجان حافل مِن النور والضياء، إبداع يجبُر الكافِر العنيد لو تفكَّر أن يخرَّ ساجِدًا لله، فمن أصغر الكائنات إلى أكبرها تخضَع لخالقها وبارئها؛ خوفًا وحبًّا لله، فكأنما لها قلوبٌ تنبض مع كلِّ شروق جديد.

وكيف لا يكون ذلك وقد بيَّن لنا الحديثُ النبوي الشريف ما تملِكه هذه المخلوقاتُ مِن طرائق خاصَّة خفيَّة تعبد الله بها، ولكننا لا نفقهها، نستشعرها حينما ترقُّ القلوب بكلام علاَّم الغيوب؟! فلا خيرَ في مَن صمَّ أذنيه وعصبَ عينيه، لا يُوقِن ولا يؤمِن إلا بالماديات، ران على قلبه ما اكتسب مِن الآثام.

كم هو محرومٌ مَن لا يدرك ما وراءَ هذه الطبيعة مِن حقيقة، تَزيد المؤمنين قُرْبًا من الله، يوقنون أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، ويستشعرون حلاوةَ التقرُّب إليه، بالتأمُّل في هذه الطبيعة الناطِقة أنه لا إله إلا الله، يرون خضوعَها في كلِّ الصور والآيات الكونيَّة.

حتى ليُخيَّل إليهم مِن خضوعها أنَّها ساجدة لله، بخشوع يهزُّ القلوب، ويبعث فيها الخوفَ والإجلال لله، خالق الكون ومبدعه؛ رهبةً وجلالاً وجمالاً يحسه المؤمنون بالله، وهم يضعون الجِباهَ على أرض يُدركون أنها تحبهم؛ لأنهم يعبدون الله، وتشاركهم الفخرَ بطريقتها الخاصة؛ كما قال - سبحانه وتعالى - في آية تظهر لنا عبوديةَ هذه المخلوقات، كأجمل ما تكون العبودية: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الرعد: 15].

ما أحوجَنا إلى تدبُّر القرآن، والوقوف عندَ هذه الآيات التي تُعلِّمنا أنَّنا لا شيء بدون عبادة الله تعالى! فكم نسمو ونعلو ونسعد بها، وكم نسقط مِن علٍّ ونشقَى إذا ما غاب عنا هدفُ وجودنا.

وما أجملَ الحياةَ إذا ما كانتْ بين ركوع وسجود لله وخضوع له، وافتقار يجعل القلبَ دائمَ السجود له، لا يسمو إلا وهو بيْن يدي مولاه! فلله دَرُّ مَن فقه معاني السجود، فلم تبرحْ رُوحه محراب العبودية، وكلَّما انجلت له آية من آيات الله في الآفاق، ازداد ذلاًّ وخضوعًا لربِّ العالمين.

هذه الجمادات التي لا تَعي ولا تعقِل، يخبرنا الله - سبحانه وتعالى - أنها تُسبِّحه وتمجِّده، وتعبده وتقر له بالوحدانية.

الإنسان الضعيف جزءٌ لا يتجزَّأ مِن هذا الكون الشاسع الممتد، فطاعتُك لله تنسجِم مع طاعة كلِّ المخلوقات، فتحظَى بحبِّ الله ثم بحبِّ مَن حولك، مِن شجر وحجر وسماء وأرض، فإذا ما سموتَ بنفسك وارتفعت بها عاليًا، وحققتَ مرادَ الله فيك، كانتْ هذه بدايةَ حياة سعيدة سرمدية إلى ما شاء الله سبحانه، تبدأ مِن جديد بدايةً لا تنتهي بموت ولا فوت ولا فناء.

ما الذي غرَّكَ بربِّك الكريم؟! أيها الصغير أمامَ كواكب ومخلوقات عظيمة، تنوَّعتْ واختلفت في أحجامها ودورها في الوجود، لكنَّها توحَّدت في الاعتراف والإقرار لله خالِق الكون أنَّه هو الأحقُّ بعبوديتها وتعظيمها له كما يَنبغي لجلاله وكماله.

كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].

كم يرتاحُ القلْب، وهو يجِد صدى تسبيحه وذِكره لربِّه يملأ أرجاءَ الكون، ابتداءً مِن زهرة نديَّة إلى أكبرِ وأعظم المخلوقات مِن شمس وقمَر وجبال وبحار، ومما نعلم ومما لا نعلم، أحصاهم ربِّي وعدَّهم عدًّا.

وهناك صورٌ كثيرة تُظهِر لنا عبوديةَ الكائنات لله، ولا تقتصر هذه العبودية فقط على ذِكْر الله والصلاة، كما جاء في آية كريمة من سورة النور: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ [النور: 41]، ولكن تتعدَّاها إلى حبِّ الأنبياء والمرسَلين - عليهم الصلاة والسلام - والمؤمنين الصالحين، فقدْ جاء في الحديث النبويِّ الشريف ما يثبت ذلك.

عن جابر بن سَمُرة، قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي لأعرفُ حجرًا كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أبُعث، إني لأعرِفه الآن))؛ مسلم (4/ 1782) رقم (2277)، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتسليم الحجر عليه قبل النبوَّة.

وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: "كنَّا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بمكة، فخرجْنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجرٌ ولا حجرٌ إلا قال: السلام عليك يا رسولَ الله"؛ مستدرك الحاكم (2/677) رقم (2438)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه.

ولا يخفَى عن كثيرٍ منَّا حديث حَنينِ الجِذع إلى النبيِّ - صلوات ربي وسلامه عليه - روى البخاري عَنْ جابر بن عبدِالله - رضي الله عنهما - قال: إنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقوم يومَ الجُمُعة إلى شجرة أو نخْلة، فقالت امرأة مِن الأنصار أو رجلٌ: يا رسولَ الله، ألا نجعل لك منبرًا، قال: ((إنْ شئتُم))، فجعلوا له منبرًا، فلما كان يومُ الجمعة دفَع إلى المنبر فصاحتِ النخلة صياحَ الصبي، ثم نزلَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فضمَّه إليه تئِنُّ أنينَ الصبي الذي يسكن، قال: كانتْ تبكي على ما كانتْ تسمع من الذِّكر عندها.

وفي آياتٍ كريمات يصِف الله لنا رِقَّة الصخر، عندما يذكُر خشية الله فيتصدَّع ويتشقق، ويهبط مِن خشية الله كما جاء في الآية: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 74]، ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].

بهذه الصورة الرائِعة مِن عبودية الكون لله، يحنُّ قلب المؤمِن ويرقُّ لكلِّ المخلوقات مِن حوله، فهو يعلم أنَّها مثله خاضعة لله خاشِعة.

ويزْداد حبًّا لله ورسوله، ويوقِن أنَّ هناك مِن الكائنات مَن هم مثله يحبُّون الله ورسوله، ويشهدون بوحدانية الله ويعبدونه، لا يُشرِكون به شيئًا، ويحبون الأنبياء والصالحين، فالمؤمن يدرك أنَّ في قلب هذا السكون الذي يلفُّ الكونَ أصواتًا تسبِّح وتهلِّل، وتذكر الله بُكرةً وأصيلاً، تتناغَم مع العصافير في الغُدوِّ والآصال، وتتسابق إلى ذِكر الله صباحًا ومساءً.

فلا يرضى بأن تكونَ أفضل منه، وقد كرَّمه الله على سائر المخلوقات، بل يبادر دائمًا إلى ذكْر ربه، لا يفتر لسانُه وقلبه عن التسبيح والتهليل، مصداقًا لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما رواه عبدُالله بن بُسْر أنَّ رجلاً قال: يا رسولَ الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثُرتْ عليَّ، فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به، قال: ((لا يزال لسانُك رطبًا مِن ذكر الله)).


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/46418/#ixzz3u71zU13e

خانة التعليقات

أحدث أقدم